عمر الزعني ·· السمفونية البيروتية الخالدة
عمر الزعني قبل رحيله بعام 1960
تفتخر بيروت بابنها الشاعر الفيلسوف الذي أنجبته شتاء العام 1895، من أسرة بيروتية عريقة بجذورها البيروتية، تعلم من والده "ألف باء" الكفاح·· وكان عمر بكر والديه· عمر الزعني، (عاشق بيروت)·· فقد أحبها بجوارحه ·· وبادرته الحب فكان (الإبن البار) لها منذ نعومة أظفاره حتى غروب شمسه (1895 - 1961)·
طوال حياته المريرة ·· كان ابن المدينة بيروت وشاعرها وفيلسوفها·· الثائر على الطائفية، والفساد، والأنانية عند "أهل الحكم" لسان حال أبناء عاصمته "عاصمة الدنيا"، وصوتها الهادر بوجه الانتداب الفرنسي· والعهد العثماني وهو الذي أفلتته الأقدار من (حبل المشنقة) لأنه صرخ بوج الطاغية جمال باشا: لا؟! ومن يومها صار أبا محمد بمثابة جريدة سياسية ناطقة باسم الشعب المقهور، وذاع صيته ولقب: بـ "المتنبيَ"، لأنه حمل بين ضلوعه "هموم الناس"·· ووجع المظلومبن!! مما دفع فيلسوف الفريكه أمين الريحاني ليقول عنه: "عمر الزعني ليس شاعراً فحسب إنه مربي الأجيال" وقالت مي زيادة: "عمر الزعني شاعر الأمن"! وقال عنه رفيق دربه وابن مدينته فنان الشعب محمد شامل: "فنان صادق، وطبيب بارع، ولد قبل مائة عام من ولادته"·
دخل عمر الزعني سجن الرمل (مبنى جامعة بيروت العربية) حالياً أكثر من مرة لأنه بلغ الخطوط الحمر في أشعاره الساخرة وانتقاداته اللاذعة·
ولم يكن "حنين، شاعر الشعب" إلا الاسم المستعار الذي كان يوقع به عمر الزعني أغانيه في العشرينات واشتهر به في تلك الأيام·
الدولة عرضت في شعر الزعني من جوانب متعددة، فلم يقف تناولها عند حدود نقد الحكم والسلطات، بل تعدى ذلك الى تناول ومعالجة المشاكل، والقضايا المالية والاقتصادية، فالزعني يدعو الذين يتولو ن السلطة إلى الوعي والتخطيط:
الاستقلال عالراس والعين ما يختلف بأمرو تنين لكن يللي ورا الدفة مش فاهمين الدرب منين وهو يطالب رجال الدولة بالحزم وحسن التدبير: بدنا بحرية يا ريس بزنود قوية يا ريس صافيين النية يا ريس البحر جبال يا ريس قطّاع حبال يا ريس
والزعني لا يتهاون مع (الإدارة الفاسدة) في الدولة وسكوت المواطنين عن ذلك: الهم بياكل في صحنك والموس بيلعب في دقنك والسرقة عينك بنت عينك ولازم ترضى غصب عنك خليها لألله والحكم لألله مشي حيالله ماشي الحال
ويستعير الزعني تعبيراً يغنيه الأطفال وهم يتأرجحون على العنزوقة (المرجيحة)
كمدخل لنقد الغلاء: يا طالعة يا نازلة يا بنت عمي صالحه أحوالنا اليوم واقفه والدنيا غلينه البورصة زادتنا مية بلة في الطينه·
ولا ننسى تلك (الصورة المؤسية) التي رسمتها لمدينة بيروت سنة 1930 عبقرية الزعني الشاعرية:
يا ضيعانك يا بيروت يا مناظر عالشاشة يا خداعة وغشاشه يا عروس بخشخاشة يا مصمودي بالتابوت الخواطر مكسورة والنفوس مقهورة والحرية مقبورة والكلام للنبوت الجهال حاكمين والأرزال عايمين والأنذال عايشين والأوادم عما تموت
وآراء الزعني في المرأة حافلة بالتجربة والمعرفة بأحوال ونفسية المرأة والرجل في آن واحد وقد أوردها الزعني في قالب ساخر دون تحامل، وفي أسلوب يجمع بين الفكاهة والواقعية كقوله:
مجنون ومالو دوا مين قال النسوان سوا في منهم جواهر وفي منهم قواهر وفي منهم يا ساتر للهوى وشم الهوا مسكينة البنت المستورة كيف ما عملت مقهورة خطيب يخطبها ما في مصاري بايدها مافي سلوى في بيتها ما في بتقضيها مقهورة
بقي الإنسان، انه الشاعر نفسه بكل معاناة معيشته، ومن تجاربه وعطاء أفكاره وتأملاته في الناس والحياة والموت· كل ذلك في فلسفة تتسم بالطابع الشعبي، وبكل ما ينطوي عليه هذا الطابع من حساسية في الكشف، وذكاء في التحليل وبراءة في العرض، وصراحة في النقد·
واليوم، ويا للحسرة والأسف نجد وطننا لبنان ما زال كما وصفه الزعني منذ حوالى نصف قرن في أبيات لم يجد أمين الريحاني أنسب منها ليختم بها كتاب "النكبات"· بعد أن ينعت الزعني "بشاعر الشعب والوطن":
الطقس جميل والهوا عليل والليــل طويــــــل نعمة كريم كيف ما مشيت بتشم الموت
ولقد اعتمد عمر الزعني في نشر قصائده على الإلقاء العلني و،على الغراموفون الذي كان منتشراً جداً فسجل عشرات الأغاني على اسطوانات من انتاج "بيضافون" و"أوديون" وغيرهما، كما كان ينشر نص بعض الأغاني في كتيبات منها ما يرفق باسطواناتها·
وقد خص عمر الزعني الصحافة بعدد كبير من قصائده، لا سيما مطبوعة "العفريت الفكاهي السيّار" ومجلة "الكشاف" موقّعاً باسم حنين وتحت عنوان "أغاني حنين"·
ومنذ العشرينات أخذ فن الزعني يلقت نظر الأدباء العرب والمستشرقين· فخلال سنتي 1927 و1928 كتب عنه عمر فاخوري عدة مقالات في مجلة "الكشاف" نشرت فيما بعد في كتابه "الباب الموصود"· وفي سنة 1931 خصّه بيترو صفير بجزء كبير من بحثه الذي نشره بالإيطالية في مجلة "لوريانته مودرنو" سنة 1931 ·
يبقى القول:
عمر الزعني·· فارس الكلمة وأميرها البيروتي الشجاع· سيظل بيننا في فكره، وعبقريته، وتراثه·
انه السيمفونية البيروتية الخالدة في عقول ووجدان أبناء أمته وشعبه·
" د· فاروق الجمّال مؤلف كتاب عمر الزعني "حكاية شعب"